28‏/9‏/2010

.. الحب دوماً ..



 صدقاً ، أحببتها ._
_ أحبّتك دوماً ، لكنّك لم تكن أهلاً لحبِّها يوماً .
كانت هذا ما دار بينه و بين صديق عمره الذي لا يخفيه سرّاً ، و أيضاً هو اليوم تحديداً لا يملك أن يجادله أو يرفض ما اتّهمه به من عدم أهليته لحبِّها ..
تابع صديقه في صراحةٍ مؤلمة :
_ صدقاً أحببتها ؟ هذا جلّ ما استطعته ؟ انتَ لم تكن أهلاً لها ، حتّى في حديثك عنها اليوم ، ترويها بصيغةٍ ماضية ، ألأنّها لم تعد هنا حكمتَ عليها بالغياب عن رحابِ القلبِ أيضاً ؟! أنتَ طفل لاهٍ لا تستحقّها .
كانت كلمات صديقه تخترقه في قوّة ، ربّما لأنّ يقينه بصدقِ كلمات صديقه كان بحجم مساحات الحزن التي اجتاحته .. و رغم أنّه كان ينشد المواساة حين لجأ لصديقه لكنّه لم يغضب و هو يتلقّى عباراته الصريحة المكسوّة بالحزنِ .. ربّما لأنّ الحزن عليها كان عميقاً في نفوس الجميع .. أعمق من أن يداريه أحد ليواسي فيها غيره .. الجميع كان ينشد من يواسيه ..
كانت صغيرة .. و الموتُ لا يعرف عمراً .. حيويّة .. و الحياة لا تمتدّ لمن يحبّها .. بريئة .. و لم يكن لها من الحياة نصيبٌ لتأثم فيه .. و هكذا رحلت ..نقيّة القلب ..
أتاه صوت صديقتها ملتاعاً عبر أسلاك الهاتف .. لم يكن ليميِّز كلماتها المنتحبة .. فقط جلّ ما أدركه أنّها أوصت بأن يكون أوّل من يدرك رحيلها .. حتّى في الرحيل لم تكن لتنساه .. هذا ما جال بخاطره و هو يغلق باب غرفته عليه و دمعة معاندة تنحدر على خدّه   في صمت .. بعد أن خبّأها طويلاً أثناء تواجده في صيوان العزاء ..
جالت بخاطره مجدّداً كلمات صديقتها له عندما التقاها في صيوان العزاء ..    
 " أرادت أن تكون أوّل من نخبرك .. لحظاتها الأخيرة كانت مؤلمة للجميع .. كان الصداع لا يفارقها.. دائمة التشنُّج .. كانت تنام بعد إعطائها الحقن المسكِّنة .. لكنّها في لحظاتِ صحوها و هدوئها كانت دائمة الابتسام .. كانت تحدِّثنا عنك كثيراً .. ربّما لم يمنحنا القدر فرصة لقائك في حياتها .. لكنني دوماً لم أكن أتمنّى أن يكون لقاؤنا الأوّل بك يوم وداعها الأخير .. أحبّتك دوماً .. "
" أحبّتك دوماً " ..
هذا ما قالته صديقتها .. و ما قاله صديقه .. و ما قالته هي قبل رحيلها .. رسالتها الأخيرة ..
"
بقلبٍ كامل الوعي .. كامل العاطفة .. أقولها لك ..
ارحل ..
لم يبقَ بالقلبِ مساحات تتّسع لاقترابٍ آخر ..
ارحل و دع لي ما بقيَ من الذكرى ..
و ما بقيَ من أمومة أيقظها بداخلي وجودك يوماً ..
دع لي ذكرياتي .. و مساحات تخصّني في قلب طفلٍ أحببته يوماً ..
أحببته دوماً ..
و أنا لا أوصيَ قلبك على ذكراي ..
ليس لطفل أن يوصّى على فؤاد احتواه أمومة ..
و أنت كنتَ طفلي المدلّل ..
و كنتُ أحبّك بعاطفة أمّ ..
و بغريزة أنثى ..
تعلّمتُ أن أشتاقكَ ..
و بنبلِ رجل .. علّمتني أن أنشد الأمان معك ..
فأضحيتُ أنا صغيرتك التي لم تضن عليها يوماً دفئاً و لا أماناً ..
ليتبدّد أماني معك حينما اخترتَ المنطق الرياضي قياساً لعاطفتك نحوي ..
تبدّد الأمان .. و بقي الحنين متّسعاً باتساعِ الذكرى ..
و أشهدُ في عينيك الآن تساؤلاً ..
لم الرحيل .. و القلبُ ما زال لك ؟!
ارحل ..
حتّى تبقى الذكريات أجمل ..
عاطفتي لا تقبل الجمع و الطرح و القسمة ..
 أنت رجلٌ شغلتك الأرقام ..
و أنا امرأة لا تجيد فنّ الحساب .. "
في رسالتها كانت توجِّه له ذات تهمتها التي توجهها كلّ مرّة .. حتّى و إن امتنعت عن مصادمته رفقاً به كانت عيناها تلومانه دوماً و كان يدرك لِمَ .. فهو رجل المنطق .. رجل الأرقام كما كانت تصفه .. خطواته محسوبة .. و خوفه محسوب أيضاً .. و لأنّه أحبّها حقّاً فقد كان لخوفه الصدى الأعمق في علاقته بها .. فهو لم يعتد الخوف إلاّ على من يحبّهم ..
ما ظلّ يدهشه دوماً أنّ رجل المنطق كان يعود طفلاً أمامها .. هي لا تجيد فنّ الحساب كما أخبرته .. لكنّها أجادت إسباغ أمومتها عليه دوماً .. حتّى في تفاصيلها اليوميّة التي لا يتشاركها معها .. تذكّر بحث التخرُّج الذي كانت تعدّه في سنتها الأخيرة في دراسة علم النفس و رياض الأطفال .. كان بحثها عن ما أسمته " طاقة الحبّ الأسري و تأثيرها على الطفل " .. كانت تناقش علاقة الوراثة بحبِّ الطفل لوالديه .. تتساءل عن الأطفال فاقدي السند و تلقيهم لطاقة حبّ دفّاقة من أناس لا تجمعهم بهم قربى وراثيّة .. و مدى تأثير هذه الطاقة في الطفل .. بمقارنتها بما قد يحسّه الطفل تجاه والده الحقيقي إن أُخفِيَت عنه حقيقته .. هل " الدم يحنّ "  كما يقولون ؟!
كانت تبحث بجرأة .. هي امرأة الإحساس .. و بحث بهذا العمق كان يوقظ أمومتها و إنسانيتها بلا حدود .. فتفنى فيه بهمّة أكبر .. و حينما كانت تلتقيه كانت تؤكد له أنّه أساس بحثها .. فهو طفلها الذي لم تنجبه ، لكنّها غريزيّاً منحته أمومةً بلا حدود .. كانت أمومتها كثيراً ما تطغى على الأنثى التي يعشقها فيها .. و لم يكن هذا يغضبها .. كانت تراه رابطاً أقوى بينهما .. فليس لابن أن يفارق أمّه يوماً .. لم تكن تدري أنّه قد يفعلها و يغادر .. فقط لأنّه رجل المنطق .. أضاع عمره في خوفه من غضب الأرقام .. و أضاع قلبها بين الطرح و القسمة ..
.....................
" أنتَ لم تكن أهلاً لحبِّها " ..
كلمات صديقه تخترقه من جديد .. عشرات الدموع تتدافع من عينيه دون مقاومة ..
يراها أمامه و قد أضحت رقماً بين القبور ..
الآن يحرق سجلاّته مع الأرقام .. رجل المنطق أضحى عاشقاً يتيماً .. هذا كلّ ما أدركه حينما خنقته العبرة و هو يهمس لقبرها .. " أحببتكِ دوماً "..
و كان قلبه المنتحب يدرك أنّ أوبته جاءت متأخرة .. جاءت بعد عمرٍ مضى ..!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق